أقول وبالله التوفيق: يستحبُّ فتح مثل هذه الفضائيات المباركة التي تسعى لنشر الإسلام وتعليمه للناس، فينتشر الخير والمعروف بواسطتها، وهي من أعظم الوسائل للدعوة في هذا الزمان، وعلينا أن لا نلتفت للفتاوى التي تمنع من مثل الخير؛ لأنها مخالفة لحاجة المسلمين وتطورات حاجة الناس، وليس لها تأصيل علميّ تبنى عليه، فهي تخريج من بعض الفضلاء للمسألة، ولكنهم أخطأوا في تخريجهم.
وهذا لأن التصوير الضوئي «العكس»: وهو يشمل الصورة الثابتة «الفوتوغرافية» والصورة المتحركة على شاشة سواء كانت شاشة تلفاز أو سينما أو حاسوب أو انترنت أو هاتف أو غيرها.
وكيفية ما يحصل في هذا التصوير هو أقرب ما يكون للمرآة إذ ينطبع فيها عكس من أمامها، وكذلك الفلم ينطبع فيه عكس من أمامه بخصائص مادة خلقها الله عز وجل مما يؤدي إلى ظهور مثالها أو خيالها عليها.
«وإطلاق أهل بعض البلاد العربية اسم (العكس) على ما نسميه (تصويراً ضوئياً) أدق، كما أن كلمة (التقاط صورة) أقرب إلى الدقة من كلمة (تصوير)؛ لأنه لا يتجاوز كونه حبس العكس؛ لأن النور ينتشر من مصدره ليسقط على الأجسام التي من حوله، وعنها ينعكس إلى غيرها، ورؤيتنا للأشياء إنما تتم بانعكاس النور عنها إلى أعيننا، وهذه الأجسام ينعكس نورها أيضاً على الجسم المصقول اللامع فيظهر (عكس) شكلها عليه، ومن هنا سميت المرآة مرآة؛ لأنّ المرء يتراءى فيها: أي يرى نفسه فيها.
وآلة التصوير أشبه بالمرآة؛ إذ تستقبل النور المنعكس عليها عن الأجسام المقابلة لها من خلال عدستها ليسقط على الفلم، وهي بذلك لا تختلف عن المرآة إلا من حيث ثبوت أثر المشهد المنعكس عليها والذي يظهره العمل الكيميائي المسمى بـ(التحميض والإظهار).
ومن المعلوم أنّ الوقوف أمام المرآة لا يعتبر تصويراً بالمعنى المذكور، وكذلك الأمر بالنسبة لما احتفظت به الأفلام، وأظهر على الورق المقوى المصقول مما نسميه بـ(الصور) أو لما ظهر على «سلايدات» أو أفلام.
وإذا كان أبناء بلادنا أو غيرهم يطلقون على ذلك اسم «التصوير»، فإنه مجرد اصطلاح، لا يعني التطابق بالدلالة كما رأينا.
يترتب على ذلك: أن التصوير الذي ورد تحريمه بالنصوص الشرعية لا يشمل هذا الفن المستحدث.
وهذا البيان يتناول التصوير المتحرك على الشاشات المختلفة كالتلفاز؛ لأن مبدأهما واحد مع زيادة في المزايا؛ إذ تتحول الصورة المنطبعة على اللوحة ذات الحبيبات الحساسة إلى إلكترونات تؤثر في لوح الإشارة خلف اللوحة الحساسة، فتتحول إلى إشارات كهربائية ترسل على شكل موجات كهرومغناطيسية عبر هوائي الإرسال لتنتشر في الفضاء؛ إذ تستقبلها هوائيات الاستقبال لأجهزة التلفاز التي تعود بدورها فتحولها إلى إلكترونات تؤثر في الشاشة لتظهر على شكل صور تحكي المشهد الأصلي.
وإن الحكم الشرعي الذي يتعلق بشيء إنما ينصرف إلى ماهية ذلك الشيء لا إلى مسمياته التي تختلف في حقيقتها وكنهها عنه، وإن اشتركت معها في الاسم.
ولعمري إن إدراج مسألة التصوير المعاصر تحت حكم التصوير الوارد في الشرع يشبه تحريم الصلاة على النبي e على غير المتوضئ؛ لأن الصلاة تحرم بغير وضوء». ينظر: التصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة ص178-187.
وقد ألّف إمام العصر وفريد الدهر مفتي مصر محمد بخيت المطيعي (ت 1354 هـ) t رسالة سمّاها: «الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي» ذهب فيها إلى أن الصورة بالفوتوغرافيا الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسائط المعلومة لأرباب هذه الصناعة ليس من التصوير المنهي عنه؛ لأن التصوير المنهي عنه هو إيجاد صورة وصنع صورة لم تكن موجودة ولا مصنوعة من قبل، يضاهي بها حيواناً خلقه الله Y، وليس هذا المعنى موجوداً في أخذ الصورة بتلك الآلة. ينظر: تكملة فتح الملهم 4: 162.
وممن أفتى بإباحته شيخ الأزهر حسنين مخلوف والعلامة الشيخ منصور علي ناصف صاحب كتاب التاج الجامع للأصول، والشيخ العلامة عبد الرحمن الجزيري، والشيخ أحمد هريدي وشيخنا العلامة قاسم بن نعيم الحنفي والدكتور محمد توفيق البوطي. ينظر: تبصرة الراشد ص20، والتصوير ص187.
ودليل إباحة هذا التّصوير:
- أن هذا التصوير في حقيقة فعله كفعل العين أو المرآة، ورؤية العين للأشياء من الضرورات التي حض الإسلام على حفظها والعناية بها لا على إعدامها، وكذلك المرآة فإن الرسول r لم ينكر فعلها بل وردت في أحاديث عنه على سبيل المدح، والصحابة y استخدموها بلا إنكار، وكذا التابعون ومن بعدهم إلى يومنا هذا، ولم يرد عن أحد منهم إنكار وتحريم رؤية آخر في مرآة أو ماء باعتبار أنه صورة محرمة، فإن ثبت هذا، فإن التصوير الضوئي، هو مرآة أو عين حقيقة إلا أنه يحفظ العكس، فحكمه حكمها.
- أن هذا التصوير مستحدث والنصوص تتناول التصوير اليدوي المعروف عند قدماء الأمم، والأصل في الأشياء الإباحة، فيكون مباحاً، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة} الأعراف:32.
- أنّ قياس أمر مستحدث بأصل ثابت يحتاج إلى علة تلحق المقيس بالمقيس عليه في الحكم، وعلة التحريم في فعل التصاوير اليدوية التي كانت قديماً هي المضاهاة لخلق الله Y، قال العلامة المحقق ابن عابدين في رد المحتار 1: 647: «علّة حرمة التصوير هي المضاهاة لخلق الله Y». وهذه العلة منتفية فيمن يمارسون التصوير الضوئي؛ إذ أن أحدهم في أخذ صورة لشخص لا يقصد مضاهاة الله Y وإنّما حبس عكسه وحفظه بناء على رغبة صاحبه.
- أنه ليس في التصوير تشكيل وتكوين كما في التماثيل والنقش والنحت على الجدران المنهي عنه، بل هذا التصوير حفظ عكس الأصل فحسب. ينظر: تبصرة الراشد ص19-20.
قال شيخنا العلّامة قاسم بن نعيم الطائي حفظه الله في تبصرة الراشد ص20: «والحاصل أنّ التصوير الفوتوغرافي مباح إلا إذا أحدث ضرراً كصور الفساد والميوعة والخلاعة أو تصوير نساء أجنبيات وعرضهن أمام الرجال الأجانب أو صور الأنبياء وآل البيت والصحابة، فإنّ هذا حرام شرعاً لا يجوز ارتكابه أبداً، فإن خلا من هذه المذكورات وما شابهها فالتصوير جائز».
وقال شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق: «إنّ التصوير الضوئى للإنسان والحيوان المعروف الآن… لا بأس به، إذا خلت الصور والرسوم من مظاهر التعظيم ومظنة التكريم والعبادة وخلت كذلك عن دوافع تحريك غريزة الجنس وإشاعة الفحشاء والتحريض على ارتكاب المحرمات. ومن هذا يعلم أن تعليق الصور في المنازل لا بأس به متى خلت عن مظنة التعظيم والعبادة، ولم تكن من الصور أو الرسوم التي تحرض على الفسق والفجور وارتكاب المحرمات. والله سبحانه وتعالى أعلم». ينظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية 10: 3566.
وما اقتبسته في هذا الفتاوى مأخوذ من كتابي البيان في الأيمان والنذور والحظر والإباحة؛ إذ فيه تفصيل في أحكام التصوير مطلقاً، واقتصرت هاهنا على حكم الفوتغرافي منها، والله أعلم.